من عظمة السيدة زينب (ع)
أدركت السيدة زينب (عليها السلام) جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فهي على الاصطلاح: صحابية .
وأدركت أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) ورأت مصيبتها ، وسمعت خطبتها في المسجد النبوي الشريف، وروت ذلك كما أشرنا إليه في كتاب ( من فقه الزهراء عليها السلام) (1) .. وشاهدت أذى القوم لها، وكسر ضلعها وسقط جنينها واستشهادها وتشييعها ودفنها (عليها السلام) ليلاً .
وأدركت أبيها الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكانت حاضرة خطبه وجهاده واستشهاده..
وسمعت جبرائيل (عليه السلام) ينادي بين السماء والأرض: ( تهدمت والله أركان الهدى)(2).
وأدركت أخيها الإمام الحسن (عليه السلام)، ومصائبه، وتسميمه ، وقذف كبده من فمه، وتشييعه ، ورمي جنازته بالسهام(3).
وحضرت كربلاء بكل قضاياها الفريدة في العالم.
وأدركها الأسر، ولأول مرة تؤسر بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكانت (عليها السلام) هي التي أوصلت صوت الإمام الحسين (عليه السلام) إلى العالم بأجمعه.
واُحضرت مجلس ابن زياد ومجلس يزيد، ومن ثم عودتها إلى مدينة جدها(صلى الله عليه وآله وسلّم) بكل مآسيها، وفي المدينة المنورة تلقتها نساء أهل البيت ونساء المسلمين بكل لوعة وأسى .
ومن جملة من تلقتها من النساء ( أم لقمان) وكانت صديقة لزينب (عليها السلام) فلما رأتها لم تعرفها، فقالت لزينب (عليها السلام): من أنت يا أُخيَّة؟ بينما لم يكن بُعدها عنها أكثر من أشهر، وإنما لم تعرفها لشدة تأثير المصائب عليها، فرأتها امرأة متحطمة مغبرة الوجه من حر الشمس، مبيضة الشعر… لذا قالت: من أنت يا أخيّة ؟
فقالت زينب (عليها السلام): لك الحق أن لا تعرفيني ، أنا زينب.. فعلا نحيبها وبكت بكاء شديدا قلّ مثيله.
وهكذا تلقت السيدة زينب (عليها السلام) هذه المصائب.
نعم إن رفعة درجات الآخرة رهينة بكثرة الابتلاءات والمشاكل في دار الدنيا، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأُمها فاطمة (عليها السلام): ( يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً)(4).
وقد قالوا (عليهم السلام): ( أفضل الأعمال أحمزها)(5).
ولا فرق في ذلك بين الأحمز طبيعة، كالصيام في الحر بالنسبة إلى الصيام في البرد ، وبين الأحمز اختيارا، ولذا كان الإمام الحسن (عليه السلام) يذهب إلى الحج ماشيا راجلا، والنجائب(6) تساق بين يديه(7)، وقد ذكرنا في (الفقه)(
الجمع بين هذا الحديث وبين قوله سبحانه: [ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ] (9).
العصمة الصغرى
وهكذا السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)، فان التراب لا يأكل اجساد هؤلاء الطاهرين.
فان لها من المقام عند الله سبحانه ما يجعلها في المرتبة الثانية من المعصومين (عليهم السلام).
ولذا صرح بعض العلماء : بأن لها العصمة الصغرى..
ومع كل ذلك فكيف لا يكون لمرقدها الشريف تلك المنزلة؟.
إنها وإن لم نرَ في الروايات هبوط الملائكة على قبرها، كما هو مذكور في متواتر الأحاديث حول قبر أخيها الإمام الحسين (عليهما السلام) لكن استظهار ذلك من بعض الآثار غير بعيد، ولعل المتتبع يجد ما لم نجده(10).
وما أعظمها من كلمة: ( إن الله شاء أن يراهن سبايا)(11).
فالله الذي أعظم من كل عظيم يرى بمشيئته شيئاً كبيرًا لا نتمكن من وصفه، ودرك كنهه..
أليس يحق لها فوق ما نتصوره من العظمة؟،
بلى.. وأكثر..
الشفيعة زينب(ع)
أصبت بشبه أزمة قلبية في وسط محرم الحرام فأحضروا حولي بعض الأطباء.
فقال أحدهم : كيف أحضرتموني على رأس ميت؟!..
وأخيراً قرروا نقلي الى المستشفى، فنقلت على سرير.. وكان وعيي كاملا حيث وضعت على سريري في المستشفى فأخذني النوم، فرأيت في المنام أن السيدة زينب (عليها السلام) واقفة متصلة بسريري وهي تنظر أليَّ!.
وبعد أن صحوت من النوم تعجبت من هذا الحلم، فإني لم أرَ السيدة زينب (عليها السلام) قبل ذلك طيلة عمري، ثم لم يكن يتبادر الى ذهني أن أتوسل بها (عليها السلام)، حتى يحتمل أنه بسبب ذلك …
وبعد ساعة جاء أخي(12) إلى زيارتي فنقلت له الرؤيا، فقال: نعم، لقد طلبت ـ قبل مجيئي ـ من الأهل والأولاد أن يتوسلوا بالسيدة زينب (عليها السلام) في شفائك، فتوسلوا بها وأخذوا يقرؤون القرآن اهداءً لها، ولعل ذلك هو السبب.
كتب في كراماتها
ينبغي أن تكتب عدة كتب في كرامات السيدة زينب (عليها السلام) التي ظهرت منها ، فانها لا تعد ولا تحصى، ولعله يرى منها (عليها السلام) ما لا يقل من كرامة أو كرامات في كل يوم.. ويوم.
فكما أن النور يشع مهما كان ضعيفاً، فأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) بأجمعهم لهم الإشعاع، حتى في الطبقات غير العالية منهم، فكيف بالمستويات الرفيعة كالسيدة زينب (عليها السلام) ومن أشبهها.
وقد ورد في زيارة السيدة المعصومة (عليها السلام): ( من زارها وجبت له الجنة)(13) مع أنا لا نعرف عنها ـ حيث انه لم يصلنا فيها من التواريخ والروايات ـ حتى عشر ما للسيدة زينب (عليها السلام).
نعم الشيء مهما كان كبيراً دنيوياً، لا قيمة له.. فانه يزول، والشيء مهما كان صغيراً، إلا أنه إذا ارتبط بالله سبحانه وتعالى، فهو أكبر من كل كبير.
فإنهم (عليهم الصلاة والسلام) أطاعوا الله تعالى فكانوا مثله كما في الحديث القدسي: ( أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون)(14).
هذا بالنسبة إلى كراماتها (سلام الله عليها).
أما مكانتها الكونية: فلا شك أن المعنويات في مكانتها الكونية، أعظم وأجل من الماديات فيها، وقد قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام): ( لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً كان خيراً لك مما طلعت عليه الشمس)(15).
إن ما طلعت عليه الشمس أمور مادية، والأمور المادية لها مدة محدودة، أما الأمور المعنوية فلا زوال لها ولا انقضاء ، ولا يعرف أبعادها إلا الله سبحانه ومن اختارهم.
إن إحاطتهم(16) بالكون فوق ما نتصور، وهي (عليها السلام) وإن كانت في مرتبة أنزل من المعصومين (عليهم السلام) إلا أنها في درجة رفيعة لا نتمكن أن نتصور منزلتها العظيمة، فمن غير المعقول أن يستوعب الظرف الأقل حجما على ما هو أكثر من ذلك، ومن هنا يعرف قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام): ( يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا)(17).
ومن الواضح إن معرفة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومعرفته (عليه السلام) والرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لله سبحانه، يراد بذلك القدر الممكن منها ، وإلا فلا يمكن للممكن معرفة الله كما هو هو، مهما كان الممكن رفيعاً، ولو كان سيد الكائنات وأشرف المخلوقات.
التوسل بهؤلاء الأطهار
كانت السيدة زينب (عليها السلام) تملك مرتبة عالية من الذكاء الفطري، بالإضافة إلى مواهبها الإلهية وعلمها الربّاني، وقد حفظت خطبة أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في المسجد النبوي الشريف وعمرها حينذاك ما يقارب الخمس سنوات، وهي الناقلة للخطبة التي وصلت إلينا عبر التاريخ(18).
نعم رفعة الأبوين ـ خصوصاً بتلك المنزلة العالية ـ مع شدٌة مواظبتها للطاعات والعبادات وقابليتها التي منحها الله عزوجل، خَلقت منها أنبل شخصية، وأرفع إنسانة مقرَّبة عند الله تبارك وتعالى.
فعلى الإنسان وخاصة رجال الدين أن يتوسلوا بهؤلاء الأطهار(عليهم السلام) فان لهم عند الله مقاماً محموداً ودرجة عظيمة، وقد سبق قوله تعالى: [ وابتغوا إليه الوسيلة ] (19)، وقال (عليه السلام): ( نحن الوسيلة)(20).
إن أحد تلامذة الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره الشريف) كان لا يفهم درس الشيخ (قدس سره) بصورة جيدة وكان يعاني من ذلك، فتوسل بالإمام أمير المؤمنين عليعليه السلام في أن يتفضل الله سبحانه عليه بالفهم، فإنَّ (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء)(21).
فرأى الإمام علي عليه السلام في المنام، فلقّنه: [ بسم الله الرحمن الرحيم] فلما قام من منامه أخذ ذهنه يستوعب الشيء الكثير الكثير.
فجاء إلى درس الشيخ (قدس سرٌه) فرأى نفسه يتفهم الدرس بعمق، فأخذ يناقش الأستاذ في بعض المباحث، ولما انتهى الدرس، مرٌ الشيخ (قدس سرٌه) من قربه وهمس في أذنه قائلاً: إن الذي علمك البسملة، قد علمني سورة الحمد بأكملها، إشارة إلى أن ما معي من علم فهو من الإمامعليه السلام ، ولكنه اكثر مما عندك بهذه النسبة فلا تغتر بما عندك.
نعم.. من كان مع الله ومع أوليائه كان الله معه، ومن توجه إليه تعالى وتوسل بأوليائه في أموره كلها، جعل الله له الفرج والمخرج.
إذن من اللازم على طلاب العلوم الدينية خاصة: أن يواظبوا أشد المواظبة على الطاعات والانتباه لعدم الانحراف عن طريقه سبحانه، وإلا كان عاقبة أمره خسراً(22).. والعياذ بالله.
قال الشاعر:
أزمَّةُ الأمورِ طرّاً بيــده والكل مستمدً من مَدَدِه
السيدة زينب(ع) و الشعائر الحسينية
قد اهتمت السيدة زينب (عليها السلام) بالشعائر الحسينية أكبر اهتمام، فعلاً وقولاً وتقريراً:
فبكت، وأبكت، ولطمت وجهها، ونطحت رأسها بمقدم المحمل حتى جرى الدم، وخطبت خطباً، وأنشأت أشعاراً، وعقدت مجالس العزاء والبكاء على الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام .
ففي صبيحة عاشوراء حينما كانت عند ابن أخيها الإمام السجاد عليه السلام تمرضه، سمعت أخاها الإمام الحسينعليه السلام يقول:
يا دهر أفٍّ لك من خليـل كم لك بالإشراق و الأصيل
إلى أخر الأبيات..